مفهوم انتحال في الشعر

مفهوم انتحال في الشعر

انتحال الشعر الجاهلي
 الانتحال قضية من القضايا الكبرى في الشعر الجاهلي، ويـقصد بالانتحال أن ينسب شاعر أو راو ما شعرا مزيفا إلى شاعر آخر قديم ليس هذا الشعر له، وقد درس القدماء أمثال محمد بن سلام الجمحي قضية الانتحال في الشعر الجاهلي، وذكروا بعضا من مشاهير الرواة المنتحلين مثل خلف الأحمر وحماد الراوية وغيرهم.
وقد اهتم عدد من المستشرقين والباحثين حديثا بقضية الانتحال، ومن أشهر المستشرقين الذين درسوا الانتحال ديفيد مرجليوث البريطاني الذي ألف كتابا صغيرا في هذه المسألة وصل فيه إلى أن الشعر الجاهلي كله ليس جاهليا وإنما ألفه آخرون في العصرين الأموي والعباسي، وقد فند الكثيرون هذه الادعاءات. ومن أشهر من درس الانتحال في الشعر الجاهلي الدكتور طه حسين في كتابه في الشعر الجاهلي إذ شكك في  صحته شكوكا واسعة.
وقد كان الشعر الجاهلي يـتداول شفاهيا قبل التوسع في استخدام الكتابة والتدوين مما يعني إمكانية حدوث التحريف عن طريق النسيان أو غيره ما دام التوثيق غير مكتوب في أصله، ومن القضايا الشبية ة بدراسة انتحال الشعر العربي القديم قضية دراسة صحة الأحاديث النبوية المنسوبة للرسول من خلال ما يعرف بعلم الجرح والتعديل.

1) معنى الانتحال .
لغة : نحل الشيء أعطاه أو وهبه أو خصه به .
انتحل الشيء ادعاه لنفسه وهو لغيره.
اما في موضوع الشعر فهناك عدة مصطلحات سنتعرض لها في نهاية البحث ، وأهمها:
1-
النحل/ نسبة شعر رجل إلى رجل آخر.
2-
الانتحال/ ادعاء الشعر.
3-
الوضع / أن ينظم الرجل الشعر ثم ينسبه إلى غيره.
2)
دلائل وجود الانتحال قديما .
هناك شواهد تدل على أن انتحال الشعر كان معروفاً قبل الاسلام وبعده ، ومن النصوص المثبته لذلك:- 
قضية الانتحال في الشعر الجاهلي

                                                                           
 يُعدّ ابن سلام الجمحي أوّل من أثار في إسهاب مشكلة الانتحال في الشعر الجاهلي في كتابه : "طبقات فحول الشعراء"، وقد ردّها إلى عاملين : عامل القبائل التي كانت تتزيّد في شعرها لتتزيد في مناقبها، وعامل الرواة الوضاعين(.
     يقول ابن سلام: "لما راجعت العرب رواية الشعر وذكر أيامها ومآثرها استقلّ بعض العشائر شعر شعرائهم وما ذهب من ذكر وقائعهم، وكان قوم قلّت وقائعهم وأشعارهم وأرادوا أنْ يلحقوا بمن له الوقائع والأشعار ، فقالوا على ألسن شعرائهم ، ثم كانت الرواة بعدُ فزادوا في الأشعار"(.
     وقد لفتت هذه القضية ، قضيّة انتحال الشعر الجاهلي أنظار الباحثين المحدثين من العرب والمستشرقين ، وبدأ النظر فيها من المستشرقين نولدكه سنة 1864م ، وتلاه ألوّرْدْ حين نشر دواوين الشعراء الستة الجاهليين : امرئ القيس والنابغة وزهير وطرفة وعلقمة وعنترة ، فتشكك في صحّة الشعر الجاهلي عامة ، منتهياً إلى أنّ عدداً قليلاً من قصائد هؤلاء الشعراء يمكن التسليم بصحته ، مع ملاحظة أنّ شكّاً لا يزال يلازم هذه القصائد الصحيحة في ترتيب أبياتها وألفاظ كلّ منها() .
     إلا أنّ مرجليوث يعدّ أكبر من أثاروا هذه القضية في كتاباته ؛ إذْ كتب فيها مقالاً مفصلاً نشره في مجلة الجمعية الملكية الآسيوية بعدد يولية سنة 1925م ، جعل عنوانه : (أصول الشعر العربي : The Origins of Arabic Poetry) .
     ومن أبرز ما أثار مرجليوث في مقاله المذكور من زعم قوله : لو أنّ هذا الشعر صحيح لمثّل لنا لهجات القبائل المتعدّدة في الجاهلية كما مثل لنا الاختلافات بين لغة القبائل الشمالية العدنانية واللغة الحميرية في الجنوب .
     ولقد ردّ عليه الدكتور شوقي ضيف مدحضاً زعمه ، قائلاً : إنّ لغة القرآن الفصحى كانت سائدةً في الجاهلية وأنّ الشعراء منذ فاتحة هذا العصر كانوا ينظمون بها وأنها كانت لهجة قريش ، وسادت بأسباب دينية واقتصادية وسياسية ؛ فكان الشعراء ينظمون بها متخلين عن لهجاتهم المحلية على نحو ما يصنع شعراء العرب في عصرنا على اختلاف لهجات بلدانهم وأقاليمهم ().
     هذا ؛ ومن بين مزاعم مرجليوث في هذا الموضوع: أنّ النقوش المكتشفة للممالك الجاهلية المتحضرة وخاصة اليمنية لا تدل على وجود أيّ نشاط شعري فيها ، فكيف أتيح لبدو غير متحضرين أنْ ينظموا هذا الشعر بينما لم ينظمه من تحضروا من أهل هذه الممالك ؟
     ودحض بروينلش هذا الدليل ؛ لأنّ نظم الشعر لا يرتبط بالحضارة ولا بالثقافة والظروف الاجتماعية ، وهناك فطريون أو بدائيون لهم شعر كثير مثل الإسكيمو(.
     وإذا تركنا المستشرقين إلى العرب المحدثين والمعاصرين وجدنا أديب العربية مصطفى صادق الرافعي يعرض هذه القضية : قضية الانتحال في الشعر الجاهلي عرضاً مفصّلاً في كتابه : "تاريخ آداب العرب" الذي نشره في سنة 1911م ، ولكنه لا يتجاوز في عرضه - غالباً سرد ما لاحظه القدماء .
     وخلف مصطفى صادق الرافعي الدكتور طه حسين فدرس القضيّة دراسة مستفيضة في كتابه : "الشعر الجاهلي" الذي أحدث به رجّة عنيفة أثارت كثيرين من المحافظين والباحثين فتصدوا للردّ عليه. ولم يلبث أنْ ألّف مصنفه: "في الأدب الجاهلي" الذي نشره في سنة 1927م ، وفيه بسط القول في القضية بسطاً أكثر سعة وتفصيلاً ) .
     ونتيجة بحثه في هذا الكتاب يلخصها بقوله: "إنّ الكثرة المطلقة ممّا نسميه أدباً جاهليّاً ليست من الجاهلية في شيء ، وإنما هي منتحلة بعد ظهور الإسلام ، فهي إسلامية تمثل حياة المسلمين وميولهم وأهواءهم أكثر مما تمثّل حياة الجاهليين . وأكاد أشك في أنّ ما بقي من الأدب الجاهلي الصحيح قليل جدّاً ، لا يمثل شيئاً ولا يدل على شيء ، ولا ينبغي الاعتماد عليه في استخراج الصورة الأدبية الصحيحة لهذا العصر الجاهلي") .
     ومضى طه حسين يبسط الأسباب التي تدفع الباحث إلى الشك في الأدب الجاهلي واتهامه ، وردّها إلى أنّه لا يصور حياة الجاهليين الدينيّة والعقلية والسياسيّة والاقتصادية ، كما أنه لا يصوّر لغتهم وما كان فيها من اختلاف اللهجات ، وتباينها بلهجاتها من اللغة الحميرية.
     يقول الدكتور شوقي ضيف معقباً: "والحق أنّ الشعر الجاهلي فيه موضوع كثير ، غير أنّ ذلك لم يكن غائباً عن القدماء ، فقد عرضوه على نقد شديد ، تناولوا به رواته من جهة، وصيغه وألفاظه من جهة ثانية. أو بعبارة أخرى عرضوه على نقد داخلي وخارجي دقيق . ومعنى ذلك أنهم أحاطوه بسياج محكم من التحري والتثبت ، فكان ينبغي أن لا يبالغ المحدثون من أمثال مرجليوث وطه حسين في الشك فيه مبالغة تنتهي إلى رفضه ، إنّما نشك حقّاً فيما يشك فيه القدماء ونرفضه ، أما ما وثقوه ورواه أثباتهم من مثل أبي عمرو بن العلاء والمفضل الضبّي والأصمعي وأبي زيد فحريٌّ أنْ نقبله ما داموا قد أجمعوا على صحته. ومع ذلك ينبغي أنْ نخضعه للامتحان وأنْ نرفض بعض ما رووه على أسس علميّة منهجية لا لمجرّد الظن ، كأنْ يُرْوَى لشاعر شعرٌ لا يتصل بظروفه التاريخية ، أو تجري فيه أسماء مواضع بعيدة عن موطن قبيلته، أو يضاف إليه شعر إسلامي النزعة ، ونحو ذلك مما يجعلنا نلمس الوضع لمساً" .
     ونقول نحن : لو قارنّا بين ما أثاره طه حسين وبعض المستشرقين أمثال مرجليوث ونولدكه ؛ لوجدنا أنّ هناك تقارباً بل اتفاقاً ملحوظاً ؛ وهذا مما يؤكّد لنا أنّ كلام طه حسين هو كلام هؤلاء المستشرقين إنْ لم يكن قد تشبع به بفضل دراسته على أيديهم وتتلمذه على كتبهم وأبحاثهم فضلاً عن ترجمته لكلامهم ونقله إلينا بلسانه العربيّ المبين ؟!!
     وخطورة الأمر: أنّ هؤلاء المستشرقين وأذنابهم حين أثاروا هذه القضيّة كانوا يرمون إلى مرمى خبيث ؛ حيث عرفوا مكانة الشعر الجاهلي ، وأدركوا أنّ علماء المسلمين منذ الصدر الأول للإسلام قد شعروا بحاجتهم إلى الشعر العربيّ ؛ للاستعانة به في فتح مغاليق الألفاظ والأساليب الغريبة الموجودة في القرآن الكريم ، والأحاديث النبوية الشريفة ؛ فأكبوا عليه يروونه ويحفظونه ويدرسون أساليبه ومعانيه وما يدور فيه من ذكر لأيام العرب ووقائعهم . ولولا هذا الباعث الديني ؛ لاندثر الشعر الجاهلي، ولم يصل إلينا منه شيء () .
     يقرّر هذه الحقيقة أبو حاتم الرازي ؛ فيقول: "ولولا ما بالناس من حاجة إلى معرفة لغة العرب ، والاستعانة بالشعر على العلم بغريب القرآن ، وأحاديث رسول الله – صلى الله عليه وسلم - ، والصحابة والتابعين ، والأئمة الماضين ؛ لبطل الشعر ، وانقرض ذكر الشعراء ، ولعضَّ الدهر على آثارهم ، ونسي الناس أيامهم" ( .
     ويقول ابن عباس - رضي الله عنه - : "إذا سألتموني عن غريب القرآن ، فالتمسوه في الشعر ؛ فإن الشعر ديوان العرب" ) .
     من هنا ؛ أدرك المستشرقون هذه الحقيقة ؛ فعملوا على رفضه ؛ حتى يغلقوا علينا باباً من أهم الأبواب لفهم كتاب الله المجيد !


مقالات

أخبار